فصل: تفسير الآية رقم (27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (26):

{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}
أي {الخبيثات} من القول تقال أو تعدّ {لِلْخَبِيثِينَ} من الرجال والنساء {والخبيثون} منهم يتعرضون {للخبيثات} من القول، وكذلك الطيبات والطيبون. و{أولئك} إشارة إلى الطيبين، وأنهم مبرؤون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلم، وهو كلام جار مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب. ويجوز أن يكون {أولئك} إشارة إلى أهل البيت، وأنهم مبرؤون مما يقول أهل الإفك، وأن يراد بالخبيثات والطيبات: النساء، أي: الخبائث يتزوّجن الخباث، والخباث الخبائث. وكذلك أهل الطيب. وذكر الرزق الكريم ها هنا مثله في قوله: {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} [الأحزاب: 31] وعن عائشة: لقد أعطيت تسعاً ما أعطيتهنّ امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّجني، ولقد تزوجني بكراً وما تزوج بكراً غيري، ولقد توفي وإنّ رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفته الملائكة في بيني، وإنّ الوحي لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإني لابنة خليفته وصدّيقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيبة عند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً.

.تفسير الآية رقم (27):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)}
{تَسْتَأْنِسُواْ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو خلاف الاستيحاش لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له استأنس، فالمعنى: حتى يؤذن لكم كقوله: {لا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] وهذا من باب الكناية والإرداف؛ لأنّ هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن. فوضع موضع الإذن.
والثاني: أن يكون من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف: استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً. والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال، هل يراد دخولكم أم لا؟ ومنه قولهم: استأنس هل ترى أحداً، واستأنست فلم أر أحداً، أي: تعرفت واستعلمت. ومنه بيت النابغة:
عَلَى مُسْتَأْنِسٍ وَحِدِ

ويجوز أن يكون من الإنس، وهو أن يتعرف هل ثمة إنسان؟ وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: قلنا: يا رسول الله، ما الاستئناس؟ قال: «يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة ويتنحنح: يؤذن أهل البيت. والتسليم أن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ثلاث مرات؛ فإن أذن له وإلاّ رجع».
وعن أبي موسى الأشعري أنه أتى باب عمر رضي الله عنهما فقال: السلام عليكم أأدخل؟ قالها ثلاثاً ثم رجع وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الاستئذان ثلاثا»
واستأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أألج؟ فقال صلى الله عليه وسلم لامرأة يقالُ لها روضةٌ: «قومي إلى هذا فعلِّميه، فإنه لا يحسنُ أن يستأذنَ. قولي له يقولُ: السلامُ عليكم أأدخلُ»، فسمعَها الرجلُ فقالَها، فقالَ: «ادخلْ». وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته: حييتم صباحاً، وحييتم مساء، ثم يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد، فصدّ الله عن ذلك، وعلم الأحسن والأجمل، وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل به، وباب الاستئذان من ذلك: بينا أنت في بيتك، إذا رعف عليك الباب. بواحد من غير استئذان ولا تحية من تحايى إسلام ولا جاهلية، وهو ممن سمع ما أنزل الله فيه، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أين الأذن الواعية؟ وفي قراءة عبد الله: {حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا}.
وعن ابن عباس وسعيد بن جبير: إنما هو حتى تستأذنوا، فأخطأ الكاتب. ولا يعوّل على هذه الرواية. وفي قراءة أبيّ: {حتى تستأذنوا} {ذلكم} الاستئذان والتسليم {خَيْرٌ لَّكُمْ} من تحية الجاهلية والدمور- وهو الدخول بغير إذن- واشتقاقه من الدمار وهو الهلاك، كأن صاحبه دامر لعظم ما ارتكب. وفي الحديث: «من سبقت عينه استئذانه فقد دمر» وروي: أنّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأستأذن على أمي؟ قالَ: «نعم»، قالَ: إنها ليس لها خادمٌ غيري، أأستأذن عليها كلما دخلْتُ؟ قالَ: «أتحبُّ أن تَراها عريانةً» قالَ الرجل: لاَ. قال: «فاستأذن». {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي أنزل عليكم. أو قيل: لكم هذا إرادة أن تذكروا وتتعظوا وتتعلموا بما أمرتم به في باب الاستئذان.

.تفسير الآية رقم (28):

{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)}
يحتمل {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً} من الآذنين {فَلاَ تَدْخُلُوهَا} واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم. ويحتمل: فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها ولكم فيها حاجة فلا تدخلوها إلاّ بإذن أهلها، وذلك أنّ الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها، ولأنّه تصرف في ملك غيرك فلا بدّ من أن يكون برضاه، وإلاّ أشبه الغصب والتغلب {فارجعوا} أي لا تلحوا في إطلاق الإذن، ولا تلجوا في تسهيل الحجاب، ولا تقفوا على الأبواب منتظرين؛ لأن هذا مما يجلب الكراهة ويقدح في قلوب الناس خصوصاً إذا كانوا ذوي مروءة ومرتاضين بالآداب الحسنة وإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها: من قرع الباب بعنف، والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذّب من أكثر الناس، وعن أبي عبيد: والله ما قرعت باباً على عالم قط. وكفى بقصة بني أسد زاجرة وما نزل فيها من قوله: {إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4].
فإن قلت: هل يصحّ أن يكون المعنى: وإن لم يؤذن لكم وأمرتم بالرجوع فامتثلوا، ولا تدخلوا مع كراهتهم؟ قلت: بعد أن جزم النهي عن الدخول مع فقد الإذن وحده من أهل الدار حاضرين وغائبين، لم تبق شبهة في كونه منهياً عنه مع انضمام الأمر بالرجوع إلى فقد الإذن، فإن قلت: فإذا عرض أمر في دار: من حريق، أو هجوم سارق، أو ظهور منكر يجب إنكاره؟ قلت: ذاك مستثنى بالدليل {هو أزكى لكم} أي: الرجوع أطيب لكم وأطهر، لما فيه من سلامة الصدور والبعد من الريبة، أو أنفع وأنمى خيراً. ثم أوعد المخاطبين بذلك بأنه عالم بما يأتون وما يذرون مما خوطبوا به فموف جزاءه عليه.

.تفسير الآية رقم (29):

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)}
استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها: ما ليس بمسكون منها، وذلك نحو الفنادق وهي الخانات والربط وحوانيت البياعين. والمتاع: المنفعة، كالاستكنان من الحرّ والبرد، وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع. ويروى: أنّ أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إنّ الله تعالى قد أنزل عليك آية في الاستئذان، وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلاّ بإذن؟ فنزلت، وقيل: الخربات يتبرز فيها. والمتاع: التبرز {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة.

.تفسير الآية رقم (30):

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)}
من للتبعيض، والمراد غضّ البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحلّ وجوّز الأخفش أن تكون مزيدة، وأباه سيبويه.
فإن قلت: كيف دخلت في غضّ البصر دون حفظ الفروج؟ قلت: دلالة على أن أمر النظر أوسع. ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهنّ وصدورهنّ وثديهنّ وأعضادهنّ وأسوقهنّ وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين. وأما أمر الفرج فمضيق وكفاك فرقاً أن أبيح النظر إلاّ ما استثنى منه، وحظر الجماع إلاّ ما استثنى منه، ويجوز أن يراد- مع حفظها عن الإفضاء إلى ما لا يحلّ- حفظها عن الإبداء.
وعن ابن زيد: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا، إلاّ هذا فإنه أراد به الاستتار. ثم أخبر أنه {خَبِيرٌ} بأفعالهم وأحوالهم، وكيف يجيلون أبصارهم؟ وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم؟ فعليهم- إذا عرفوا ذلك- أن يكونوا منه على تقوى وحذر في كل حركة وسكون.

.تفسير الآية رقم (31):

{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}
النساء مأمورات أيضاً بغضّ الأبصار، ولا يحلّ للمرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما تحت سرته إلى ركبته، وإن اشتهت غضّت بصرها رأساً، ولا تنظر من المرأة إلاّ إلى مثل ذلك. وغضها بصرها من الأجانب أصلاً أولى بها وأحسن. ومنه حديث ابن أم مكتوم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم- وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب- فدخل علينا فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصر؟ قال: «أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟» فإن قلت: لم قدّم غضّ الأبصار على حفظ الفروج؟ قلت: لأنّ النظر بريد الزنى ورائد الفجور، والبلوى فيه أشدّ وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه، الزينة: ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب، فما كان ظاهراً منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب، فلا بأس بإبدائه للأجانب، وما خفي منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط، فلا تبديه إلاّ لهؤلاء المذكورين. وذكر الزينة دون مواقعها: للمبالغة في الأمر بالتصوّن والتستر، لأنّ هذا الزين واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء، وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن، فنهى عن إبداء الزين نفسها. ليعلم أنّ النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع- بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها لا مقال في حله- كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكناً في الحظر، ثابت القدم في الحرمة، شاهداً على أن النساء حقهنّ أن يحتطن في سترها ويتقين الله في الكشف عنها.
فإن قلت: ما تقول في القراميل، هل يحلّ نظر هؤلاء إليها؟ قلت: نعم.
فإن قلت: أليس موقعها الظهر ولا يحل لهم النظر إلى ظهرها وبطنها، وربما ورد الشعر فوقعت القراميل على ما يحاذي ما تحت السرة؟ قلت: الأمر كما قلت، ولكن أمر القراميل خلاف أمر سائر الحلي، لأنه لا يقع إلاّ فوق اللباس، ويجوز النظر إلى الثوب الواقع على الظهر والبطن للأجانب فضلاً عن هؤلاء. إلاّ إذا كان يصف لرقته فلا يحل النظر إليه، فلا يحلّ النظر إلى القراميل واقعة عليه.
فإن قلت: ما المراد بموقع الزينة؟ ذلك العضو كله، أم المقدار الذي تلابسه الزينة منه؟ قلت: الصحيح أنه العضو كله كما فسرت مواقع الزينة الخفية، وكذلك مواقع الزينة الظاهرة: الوجه موقع الكحل في عينيه، والخضاب بالوسمة في حاجبيه وشاربيه، والغمرة في خديه، والكف والقدم موقعا الخاتم والفتخة والخضاب بالحناء.
فإن قلت: لم سومح مطلقاً في الزينة الظاهرة؟ قلت: لأن سترها فيه حرج فإن المرأة لا تجد بدّاً من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها، وخاصة الفقيرات منهنّ، وهذا معنى قوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يعني إلاّ ما جرت العادة والجبلة على ظهوره والأصل فيه الظهور، وإنما سومح في الزينة الخفية، أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم، ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم، ولما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك.
كانت جيوبهنّ واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكنّ يسدلن الخمر من ورائهنّ فتبقى مكشوفة، فأمرن بأن يسدلنها من قدامهنّ حتى يغطينها، ويجوز أن يراد بالجيوب: الصدور تسمية بما يليها ويلابسها. ومنه قولهم: ناصح الجيب وقولك: ضربت بخمارها على جيبها، كقولك: ضربت بيدي على الحائط، إذا وضعتها عليه، وعن عائشة رضي الله عنها: ما رأيت نساءاً خيراً من نساء الأنصار، لما نزلت هذه الآية قامت كل واحدة منهن إلى مرطها المرحل فصدعت منه صدعة، فاختمرن، فأصبحن كأن على رؤوسهنّ الغربان. وقرئ: {جيوبهن} بكسر الجيم لأجل الياء، وكذلك {بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} قيل في نسائهنّ: هنّ المؤمنات، لأنه ليس للمؤمنة أن تتجرّد بين يدي مشركة أو كتابية. عن ابن عباس رضي الله عنهما. والظاهر أنه عنى بنسائهن وما ملكت أيمانهن: من في صحبتهن وخدمتهنّ من الحرائر والإماء والنساء، كلهنّ سواء في حلّ نظر بعضهن إلى بعض. وقيل: ما ملكت أيمانهنّ هم الذكور والإناث جميعاً.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها أباحت النظر إليها لعبدها، وقالت لذكوان: إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حرّ.
وعن سعيد بن المسيب مثله، ثم رجع وقال: لا تغرنّكم آية النور، فإن المراد بها الإماء. وهذا هو الصحيح، لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها، خصياً كان أو فحلاً.
وعن ميسون بنت بحدل الكَلبية: أن معاوية دخل عليها ومعه خصيّ، فتقنعت منه، فقال: هو خصيّ فقالت: يا معاوية، أترى أن المثلة به تحلل ما حرّم الله؟ وعند أبي حنيفة: لا يحلّ استخدام الخصيان وإمساكهم وبيعهم وشراؤهم، ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم.
فإن قلت: روي: أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم خصيّ فقبله، قلت: لا يقبل فيما تعمّ به البلوى إلاّ حديث مكشوف، فإن صحّ فلعله قبله ليعتقه، أو لسبب من الأسباب. {الإربة} الحاجة قيل: هم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم، ولا حاجة لهم في النساء، لأنهم بله لا يعرفون شيئاً من أمرهنّ. أو شيوخ صلحاء إذا كانوا معهنّ غضّوا أبصارهم، أو بهم عنانة. وقرئ: {غَيْرُ} بالنصب على الاستثناء أو الحال، والجرّ على الوصفية.
وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس، ويبين ما بعده أن المراد به الجمع. ونحوه {نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [الحج: 5] {لَمْ يَظْهَرُواْ} إما من ظهر على الشيء إذا اطلع عليه، أي: لا يعرفون ما العورة ولا يميزون بينها وبين غيرها، وإما من ظهر على فلان إذا قوي عليه، وظهر على القرآن: أخذه وأطاقه، أي: لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء. وقرئ: {عورات} وهي لغة هذيل.
فإن قلت: لم لم يذكر الله الأعمام والأخوال؟ قلت: سئل الشعبي عن ذلك؟ فقال: لئلا يصفها العم عند ابنه، والخال كذلك. ومعناه: أن سائر القرابات يشترك الأب والابن في المحرمية إلا العمّ والخال وأبناءهما. فإذا رآها الأب فربما وصفها لابنه وليس بمحرم، فيداني تصوّره لها بالوصف نظره إليها؛ وهذا أيضاً من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهن في التستر. كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها، فيعلم أنها ذات خلخال. وقيل: كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى، ليعلم أنها ذات خلخالين. وإذا نهين عن إظهار صوت الحلي بعد ما نهين عن إظهار الحلي، علم بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ. {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} أوامر الله ونواهيه في كل باب لا يكاد العبد الضعيف يقدر على مراعاتها. وإن ضبط نفسه واجتهد، ولا يخلو من تقصير يقع منه، فلذلك وصّى المؤمنين جميعاً بالتوبة والاستغفار، وبتأميل الفلاح، إذا تابوا واستغفروا.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية؛ لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة فإن قلت: قد صحت التوبة بالإسلام، والإسلام يجبّ ما قبله، فما معنى هذه التوبة؟ قلت: أراد بها ما يقوله العلماء: إن من أذنب ذنباً ثم تاب عنه، يلزمه كلما تذكره أن يجدد عنه التوبة لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه إلى أن يلقى ربه. وقرئ: {أيه المؤمنون}، بضم الهاء، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها.